( من التراث اللامادي)
********************
طقوس نزول المطر والزراعة عند أهل “الرقة”
*- محمد العزو
15 آذار /2009م/.
___________________
2021/10/6__________________________
عرفت الزراعة لأول مرة في تاريخ الإنسان في منطقة “الرقة”، وتحديداً في “تل المريبط” على الفرات الأوسط، وذلك منذ الألف التاسع قبل الميلاد. ومنذ ذلك الوقت والإنسان يتتبع خطى الخير، وارتبط وجوده بالطبيعة، فأدرك قديماً أسباب حركتها، ونسبها إلى قوى أعظم من قوته إلى أن أدرك أنّ للنبات حياة، فذبوله وموته يعني انبعاث جديد، يموت كل عام ويبعث من جديد في تكرار أبدي. وهكذا بدأت رحلة الإنسان المعرفية، فعرف الزراعة وأخذ يمارسها عاماً بعد عام، وأحياناً في فصول متعاقبة وذلك حسب حاجاته المتعددة. لسنا نعرف الكثير عن الزراعة المروية قديماً، لكن الذي نعرفه أنه قبل قرنين من الآن، عرف أهل “الرقة” على “الفرات”تقنيات جديدة لإرواء الأراضي، منها “الغراف” “والدولاب” التي كان تجر حول نفسها بواسطة الثيران أو الحمير، وقبل ذلك كانوا يستعملون طرق ري أخرى، مثل الري “بالدلو”، وهذه طريقة قديمة جداً. عرفها سكان “توتول”في الألف الثالث ق.م. وقديماً أقاموا السدود الصغيرة والكبيرة على الأودية، وكانوا يوزعون الماء على الحقول، ومن طريقة بناء هذه السدود استطاع أهل “الرقة” استنباط طريقة جديدة في جر المياه من الأنهار لإرواء الحقول والبساتين، وذلك بأن لجؤوا إلى استعمال النبات في سد جزء من مجرى النهر، بحيث يرتفع منسوب الماء ويصبح يجري في سواقٍ أعدت خصيصاً لجر الماء إلى الحقول الزراعية المُراد رَيْها، وتسمى هذه الطريقة بـ”السكور”، والتي تنفذ وفق طقوس شعبية ما زالت عالقة في الذاكرة الشعبية الرقية. هذا فيما يخص الزراعة المروية، أما الزراعة البعلية فالناس يعتمدون فيها على نزول الأمطار في موسم الخريف، حيث يتولون زراعة الحبوب في الأماكن الصالحة لذلك في البرية خارج منطقة الزور. والزراعة البعلية كانت لا تتعدى زراعة القمح والشعير قبل أيامنا هذه، أما اليوم، فإلى جانب هذين الصنفين هناك زراعة العدس والكمون والبطيخ الأحمر، وهذه الأصناف تزرع اليوم بعلاً في أنحاء عديدة من منطقة “الرقة”، وتكثُر زراعتها كلما اتجهنا شمالاً من مدينة “الرقة”، حيث يتدرج الخط المطري من الشمال إلى الجنوب. فبدءاً من جبال “طوروس” تكون كمية الهطولات المطرية بحدود /600مم/، وكلما اتجهنا جنوباً تخف كمية الهطولات حتى تصل إلى/200مم/على بعد 100كم من هذه الجبال بإتجاه جنوباً.. وتعتبر المنطقة الممتدة من جبل “عبد العزيز” في الشرق، حتى شواطئ الفرات” الشرقية في “الغرب، وكذلك الأراضي الموازية للحدود التركية من أكثر المناطق في منطقة “الرقة” صالحة للزراعة البعلية، حيث تكفي مياه الأمطار التي تجود بها السماء سنوياً لممارسة الزراعة بحدود ما تسمح به السقاية البعلية، دون الاعتماد على وسائل أخرى للري. على أن لا ننسى أنّ الأودية التي تجلب مياه الأمطار تلعب دوراً كبيراً في عملية ري المزروعات البعلية في منطقة “الرقة”. وتمتد هذه الأودية من سفوح جبال طوروس في الشمال باتجاه الجنوب وكلها تصب في نهر الفرات. أهمها وادي “الحمر “، وادي “العكلة”، وادي “الفيض”، وهناك أودية كثيرة في الجهة الشامية.. ومنذ اقتراب فصل الخريف يبدأ سكان بادية “الرقة” في الجهتين الشامية والجزرية يتطلعون إلى السماء آملين رؤية السحاب، فإذا هطل المطر في بداية فصل الخريف، أو في نصفه، استبشر الناس خيراً بهذا العام، وإن لم تجُد السماء بخيراتها يبدأ الناس بالتوجه إلى الخالق طالبين الرأفة والجود، وتبدأ طقوس نزول المطر في الحي، أو في النزل يبدؤها الأطفال بأغاني المطر التقليدية.. ليست الطبيعة دائماً كريمة مع الإنسان، وأنّ بخلها أحياناً يشكل كوارث كبيرة على البشر، وحياة سكان منطقة “الرقة” في القرنين الماضيين كانت تعتمد كل الاعتماد على نزول المطر، فنزوله في حالتهم هذه هو أملهم في حياتهم الاقتصادية، وأنّ كل سحابة مطر تظهر في جوانب السماء، تتبعها عيون الناس، وتبدأ حساباتهم تبني عليها، وإن كانت هذه السحابات بعيدة، نراهم يرسلون كتائب الاستطلاع كي يأتوا بأخبارها. ثم نجدهم يقومون بقياس كمية المطر، عن طريق إجراء حفرة صغيرة في الأرض التي هطل عليها المطر، لمعرفة عمق نزول الماء في الأرض، فإن تجاوز غوص الماء في الأرض مسافة /70سم/، فمعنى ذلك أنّ الخير سيكون كبيراً بمشيئة الله، لكن إذا كان عكس ذلك، فإنّ الجفاف سوف يقضي على خصوبة الأرض، وعلى الحيوانات وتتوقف زراعة الحبوب، ويرحل العربان إلى مسافات بعيدة بحثاً عن الكلأ ومساقط الماء، ويقومون بالتضرع إلى الله وبصلاة الاستسقاء لاستجلاب الغيث بوسائل للكبار، وأخرى للصغار يسميها الرقيون (طقوس طلب نزول المطر).
وأول هذه الطقوس عند البداة منهم والحضر أيضاً، هو إقامة صلاة الاستسقاء التي يعرفها الجميع عن طريق الفقه الإسلامي، ويحدث أن تقام هذه الصلاة في الريف كما في المدينة، ففي النزل الكبير يعلن عنها قبل يوم، حيث إذ يجتمع أهل النزل، أو القرية في ساحة قريبة من سكنهم، فيصطفون في أنساق حسب العدد، ويقوم أكثرهم علماً ومعرفة بأمور الدين، بإلقاء خطبة الاستسقاء المتضمنة الأدعية والتضرع إلى الله.
وبعد الانتهاء يفاجئ بعض المصلين، أحد الرجال المسنين ممن شُهد له بالصلاة والتقوى، حيث يقومون ب”تفريعه” “نزع غطاء رأسه”، وتفريك شعره الأشيب مع الأمل والرغبة منهم أن يقوم هذا “الشيبة” بالدعاء إلى الله أن يرحمهم ويرسل لهم المطر، وفجأة نجد هذا الشيخ المسن يرفع صوته عالياً، متوجهاً إلى السماء بالدعاء، والناس يرددون وراءه بعض ما قاله، ثم يهدأ الجمع ويقومون بقراءة الفاتحة، ثم يتفرقون.. بعد الانتهاء من صلاة الاستسقاء يقوم الصبية مساءً بجولة في أنحاء القرية أو النزل، وهم يحملون صفيحة من التنك أو “البافون”، وتحمل أحد الفتيات من صغار السن بيدها عوداً من النبات، معلقاً عليه خرقة بالية، قد تكون من ثياب عجوز صالحة وطاعنة في السن، وأثناء تجوالهم وهم يحملون الراية ويضربون على قطعة المعدن التي يحملونها، نراهم يغنون أو ينشدون أغاني نزول المطر التي تقول:
@- أم الغيث غيثينا/ بلي بشيت راعينا
@-راعينا حسن أقرع/ لو سنتين ما يزرع
@-والحنطة بطول الباب/ والشعير مالو حساب
@- ام الغيث يا رية
عبي الطاسة كية
@- ام الغيث زعلانة
تجيب المطر من عانة
@- يالله مطر يالله طين
ناتشبع الحواووين.
وتقول هذه الأغنية: مخاطبة أحد آلهات العطاء، بأن تساعدهم بالتضرع إلى السماء لنزول المطر حتى تبتل عباءة راعي الغنم. ويستمر الأطفال بالغناء، وكلما وقفوا أمام أحد البيوت، تقوم ربة البيت بإعطائهم شيئاً من الطعام، وحين يذهبون تقوم هي الأخرى بسكب الماء وراءهم، طمعاً من الجميع بنزول الغيث، ثم نجد الأطفال بعد الانتهاء من جولتهم، يجتمعون في مكان ما من الحي ويقومون بطبخ ما حصلوا عليه في جولتهم من طعام.. وإذا لم ينزل المطر بعد يوم أو يومين، يقوم الأطفال بحرق “أم الغيث”، التي هي العصا ولباسها، لأنها لم تستجب لهم، ولم تساعد في نزول الغيث، لكن إذا حدث ونزل المطر، أو بمجرد شعر الناس بحدوثة، فإن الصبية يجتمعون فرحين مرددين أغانٍ شتى منها:
@- يا مطر يا عاصي طوّل شعر راسي.
وفي سنوات الخير يهطل المطر بغزارة خاصة في فصل الربيع، وأحياناً لا يكون الهطول عاماً وشاملاً، بل يأتي على شكل زخات ربيعية في أماكن متعددة، وذلك حسب مرور السحابات التي يسميها أهل “الرقة” (مزنات مطرية)، وبعد انتهاء هطول هذه المزنات الربيعية وخاصة بعد العصر، يظهر في السماء ما يسميه العرب بقوس قزح، وبعضهم يسميه (حزام العزبة)، كونه يشبه حزام الفتاة المنسوج من الصوف الملوّن، وهذا الحزام يسمى عند أهل “الرقة” بـ(حزام الشويحي) تتمنطق به الفتيات والشابات العذراوات، وهو يشبه ألوان قوس قزح السبعة. ولأهل الجزيرة الفراتية من بدو وحضر رأي ورؤية ناتجين عن تجاربهم الخاصة والطويلة عن قوس قزح، فهو عندما يظهر في المساء، أو في العشية يقولون للمتهيئ للرحيل: (.. هز على بعارينك وتهيأ)، أي تهيأ للسفر، لأنً ظهور قوس قزح في العشيه هو ظهور خلبي، وليس وراءه مطر، أما إذا ظهر في الصباح فيقولون: (.. اركب على بعارينك وارتاح)، بمعنى أنّ ظهوره صباحاً يعني أنه ستهطل أمطاراً، الله أعلم بغزارتها. ومع نزول الأمطار في بداية فصل الخريف يستبشر الناس خيراً، ويستعد أهل “الرقة” ممن هم يقطنون الريف والمدينة على حدٍ سواء إلى زراعة الحبوب بكل أنواعها، ثم نراهم يحضرون العدة لحراثة الأرض المكونة من المحراث الخشبي وتوابعه، وحبوب البذار المكونة من القمح والشعير قديماً، يضاف إليها العدس والكمون في زمننا هذا. وهناك الحيوان الذي يحرثون عليه، مثل الخيل العادية، وهو “الكديش” عند أهل “الرقة” وكذلك الحمار الكبير “الشهري” والبغل والثور، وبمجرد أن أعدوا لوازم الحراثة، نراهم قد خرجوا إلى أراضيهم، حيث يقومون بنشر البذور على كامل الأرض بأيديهم أولاً، ثم يبدأون بعد ذلك في حرث الأرض المنشور عليها البذار بواسطة خط المحراث. ومع نبت الزرع فوق الأرض يقوم أهله بحمايته، وذلك بنصب ما يسميه أهل “الرقة” بـ(الناطور) أو(الفزاعة) التي تخيف الطيور من أكل البذار في البداية، وأكل أوراق الزرع لاحقاً. ومع مرور الأيام يقوم أهل الزرع بحمايته من الماشية، وفي نهاية الشهر الخامس وبداية الشهر السادس الميلادي يحين وقت الحصاد، فإذا استحصد الزرع، قام أهله بحصده بواسطة المنجل، تشترك فيه النساء مع الرجال، يتخلله أهازيج وأغاني الفتيات مع الشباب، ويحصد الزرع على شكل (عاروبات) صغيرة تجمع فيما بعد، وتوضع فوق بعضها البعض على شكل (كدس) كبير، هذا في حالة إذا كان الزرع المستحصد شعيراً.
أما إذا كان الزرع قمحاً “حنطة” فيستقبل الحصاد في شهر تموز، لأن القمح يحتاج في نموه إلى كمية ماء أكثر من الشعير، لذلك يأتي حصاده متأخراً عن الشعير. ثم بعد ذلك تأتي فترة دراسة القمح والشعير كل على حدا وذلك بطريقتين لا ثالث لهما هما: الدراسة بواسطة الحيوانات: وذلك بأن تكوّم أكداس الحبوب فوق بعضها البعض على شكل بيدر أو بيادر، ثم يقوم الأهالي بوضع صف من البقر أو الحمير وعند البدو صف من الإبل، بحيث يربط الواحد منها خلف الآخر، وتقاد بواسطة الرسن وتدور يومياً مئات المرات، وهي تدوس على السنابل بأرجلها: الدراسة بواسطة “الجرجر”: وهي آلة بدائية ثقيلة، قسمها العلوي مصنوع من الخشب، أما السفلي فهو عبارة عن مسننات أسطوانية الشكل مصنوعة من مادة الحديد مثبتة بشكل متناسق وقابلة للحركة والدوران، وتكون على صفين، وعدد كل صف منها يتجاوز الخمس قطع، وهذه الآلة يجرها حصان أو ثور وحتى الحمار، بحيث تقوم هذه المسننات بالدوران فوق السنابل وتهشمها إلى قطع صغيرة. ثم بعد أن يتحول البيدر الكبير إلى قطع صغيرة جداً، تبدأ مرحلة التذرية، بحيث تكون الحبوب قد تخلصت من التبن، يقوم الأهالي بتذرية البيدر بواسطة “المذراة”، وهي عملية رفع التبن بإتجاه الهواء، بحيث يقوم الهواء بدفع مادة التبن بعيداً، بينما تظل الحبوب نظيفة في مكانها. وبعد عملية عزل الحبوب عن التبن يبدأ الأهالي بعملية الكيل، بحيث يعبأ القمح أو الشعير في (شوالات. جوالات) سعة الواحدة منها أكثر من مئة كغ، ويلي “الشوال” ،عند أهل “الرقة” النصية، ثم الثمنية ثم الربعية، والنصية تعني نصف “الشوال”، أما “الثمنية” فهي تعني ثمن “الشوال” و”الربعية” ربعه. وهذه المكاييل ما زال أهل “الرقة” يعملون فيها عند توزيع الزكاة وتوزيع الفطرة في شهر رمضان المبارك. وفي العادة يقوم الأهالي بعد توزيع ما هو واجب عليهم، بتخزين كمية من القمح للعام القادم كبذار، وتحسباً من الظروف الجوية، ويكون التخزين في العادة توضع الحبوب في أكياس، ثم توضع في مكان آمن وبعيد عن أشعة الشمس، لكن في العهد التركي كان الأهالي يضعون حبوبهم في أماكن مطمورة تحت التراب يسميها أهل “الرقة” بـ(الجفر)، و”الجفر” عبارة عن حفرة مربعة عمقها وطولها وعرضها، تحدد حسب كمية الحبوب المراد تخزينها، خوفاً من مصادرتها من قبل “الجندزما” العثمانية.